الفن التشكيلي السوري في القرن العشرين

تعود بدايات الحركة الفنية التشكيلية السورية كوجود زمني وصيرورة تطورية إلى النصف الأول من القرن العشرين حيث كانت تنطوي تحت مظلة الحقبة العثمانية التي ساهمت في تكريس الفنون العربية الإسلامية ذات الصيغة العثمانية غير متجاوزة إطار الفلسفة الإسلامية في أنماطها الجمالية كنوع من الحرف والمهن التطبيقية الملبية للحاجات اليومية المبتعدة عن سياق الفن في الغرب الأوروبي.. وإن مجموعة من المواهب الفنية تعاملت مع الفن من خلال اللوحات التصويرية الزيتية المستنسخة للواقع مصورة شخوص القادة الأتراك ومآثرهم في المدن السورية وقصور وأسواق ومزارات ومعالم تاريخية حضارية وجمالية تخلد ذكراهم أو صور الفاتحين العرب وتصوير المعالم الدينية الإسلامية ومعاركهم الحاسمة في مفاصل التاريخ، وثمة نمط آخر من الفنانين التشكيليين السوريين الأوائل الذين وجدوا في الحقبة الاستعمارية الأوروبية الغربية (الانتداب الفرنسي) مجالاً لصقل مواهبهم من خلال ماعملت هذه النزاعات الفرنسية على تكوين ثقافة بصرية تابعة لفنونها، وكانت اللمسة الأوروبية (الاستشراق) مثيرة للدهشة والإبهار لدى الفنانين السوريين ماسهّل عمليات استمالتهم إلى بيانها الفني التشكيلي.

عمل الفنانون العرب على محاور عديدة في الفن مثل الزخرفة ومدى إمكانية تطويرها، وتوجه آخرون إلى التاريخ العربي الغني بالحكايات والأساطير والرموز باحثين عن هوية لأعمالهم المعاصرة، كما اهتم عدد من الفنانين بدراسة الفن الشعبي فأخذوا ألوانه واستفادوا من طرائق تزيين البيوت الشعبية في عمل لوحات (كولاج) بأن يضيف الفنان الى سطح اللوحة قطعاً من القماش أو غيرها لخلق وحدة تشكيلية لإضفاء عفوية على الجو العام للوحة.‏‏

كان الفن التشكيلي في العهد العثماني يخضع إلى ضوابط ومعايير انحصرت جميعها ضمن مفاهيم تقليدية لم تتجاوزها أو تتعداها إذ سيطرت في تلك المرحلة الرسوم التسجيلية الدقيقة إضافة إلى لوحة المخطوطة التزيينية التي تضمنت الحكم والأمثال، وقبل الانتقال إلى مرحلة تكوين الحركة الفنية الأولى لمرحلة الرواد سوف نذكر بعض فناني المرحلة العثمانية الأخيرة...‏‏

*الفنان توفيق طارق (1875-1940):‏‏

عاصر المرحلة الأخيرة من الفترة العثمانية وكان من الأوائل الذين سخروا مواهبهم وخبراتهم الفنية والمعرفية والبصرية الفنية واتخذ أسلوبية العين واليد الخبيرة في تصوير المناظر الطبيعية والمشاهد الخلوية واللوحات الشخصية للقادة الأمراء العرب وتسجيل اللقطات البصرية الموثقة المعالم من مساجد وأحياء دمشقية، ومن أبرز لوحاته (معركة حطين).وأسهمت تجاربه الفنية في نقل الحركة الفنية من المرحلة التسجيلية إلى المرحلة الواقعية ثم الكلاسيكية مستفيداً من اطلاعه على تجارب الفن الأوروبي.‏‏

ـ الفنان عبد الوهاب أبو السعود (1897-1951):‏‏

كان متعدد المواهب الفنية التي توزعت مابين المسرح والفن التشكيلي، ومدرساً له أكبر الأثر في رعاية مجموعة من الفنانين والمواهب السورية.‏‏

فترة ظهور الرواد: تعتبر هذه المرحلة من أهم المراحل الفنية، وفيها ظهرت أول حركة تشكيلية ذات أهداف ومفاهيم حملت أساليب لم تكن معروفة بشكلها العلمي.. وظهرت المتغيرات على الفن تبعاً للحاجات الجديدة التي جاءت مع الوافدين، فتبلورت المفاهيم الفنية المختلفة تماماً عن الفترة العثمانية السابقة... ونجد أن الحركة التشكيلية في سورية بدأت تأخذ أبعاداً حقيقية أكثر عمقاً وتوسعت التجارب الفنية، وهكذا انطلقت تجارب الرواد لتعبر عن أهدافها وتطلعاتها.‏‏

ـ الفنان سعيد تحسين(1904-1985):‏‏

جسد نقلة نوعية إلى الصيغة الأكاديمية مستفيداً من وجوده في بغداد كمدرس للفنون حيث شكلت اللوحات السياسية والاجتماعية والشعبية والتاريخية عناوين بارزة في لوحاته.‏‏

ـ الفنان محمود جلال:‏‏

اتبع المنهج الأكاديمي وكان مؤسساً لولادة هذا المنهج حيث كان موظفاً في السلك التربوي مما سمح له بصقل المواهب الفنية السورية من خلال البعثات التعليمية في دول الغرب الأوروبي ومصر بإيفاد عشرات الأسماء التي تبوأت مكانة مرموقة بالحركة التشكيلية السورية، لقد كان فاعلاً تربوياً ونحاتاً مميزاً، ومن أشهر لوحاته التصويرية (صانعة القش).‏‏

بينما وجد الفنان “فتحي محمد” ذاته في مجال النحت وتقنياته لاسيما في خامة “البرونز” متأثراً بالمدارس الإيطالية مقدماً مجموعة من التماثيل والنصب التذكارية التي ازدانت بها الساحات العامة بسورية، ومن أبرزها تمثال الشهيد “عدنان المالكي” في ساحة المالكي بأبو رمانة بدمشق.‏‏

قسّم النقاد تاريخ الحركة التشكيلية السورية الحديثة إلى مرحلتين:‏‏

المرحلة الأولى:‏‏

تم التركيز فيها على المدارس الوافدة من الغرب (1900-1950) إذ كانوا ينظرون إلى الحضارة العربية بشيء من العدوانية.. وقد رسم رواد هذه المرحلة المواضيع التاريخية التي يظهر فيها مدى عراقة وأمجاد هذا الوطن، كما رسموا بورتريهات المناضلين الذين ساهموا في تحرير سورية من الاستعمار.‏‏

في هذه الفترة سافر بعض الهواة إلى العواصم الأوروبية للدراسة، فشهدت هذه الفترة تنافساً بين فنانين منهم من كان يجد في الانطباعية روحاً جديدة وسبلاً للتخلص من الكلاسيكية التقليدية، فقد كان هناك خلاف بين - ميشيل كرشة- ومعه فنانون آخرون يسعون للتحرر من القيود الكلاسيكية ومابين -عبد الوهاب أبو السعود- ومجموعة من الفنانين الذين يصرون على التمسك بالطريقة الفنية التقليدية.‏‏

وقد برزت في هذه المرحلة الاتجاهات الفنية التالية:‏‏

الاتجاه الانطباعي‏‏

الاتجاه التسجيلي‏‏

الاتجاه الواقعي‏‏

من أهم فناني هذه المرحلة (ميشيل كرشة،محمود جلال، رشد قصيباتي، فتحي محمد، صبحي شعيب، ناظم الجعفري، منيب النقشبندي،..)‏‏

المرحلة الثانية:‏‏

تمتد من بداية الخمسينات إلى بداية السبعينات حيث تميزت برغبة فنانيها بتجاوز الاتجاهات الفنية الغربية الوافدة، وتمّ في هذه المرحلة إحداث مديرية الفنون الجميلة وإيفاد البعثات الفنية إلى الدول الغربية.‏‏

وظهرت اتجاهات جديدة منها مايسعى إلى فن معاصر له هويته العربية الخاصة من استخدام واستلهام الخط والزخرفة، ومنها مايستند إلى التراث التشكيلي الثري في التاريخ الحضاري السوري، وقد أدى حدثان مهمان في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات دوراً كبيراً في الحياة التشكيلية السورية وذلك بإحداث (وزارة الثقافة) التي أوكل إليها مهمة رعاية الحياة التشكيلية وتأسيس (كلية الفنون الجميلة) التي خرّجت في العقود التالية مجموعة من الفنانين المتميزين وقد بلغ هذا الحدث مداه الأعلى بعد السبعينات بحصول عدد من التشكيليين السوريين على أوسمة رسمية رفيعة، وإقامة المعرض السنوي تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية. وكان لولادة كلية الفنون الجميلة أثر كبير في رعاية المواهب الفنية السورية وأصبحت الموئل الأساسي الرافد للحركة الفنية المعاصرة إذ تخرّج هذه الكلية في كل عام أفواجاً من الدارسين في مجالات الدراسة الأكاديمية الموزعة في خمسة فروع وأقسام رئيسية هي: (التصوير بأنواعه،النحت بأنواعه، الحفر والطباعة اليدوية، الاتصالات البصرية، الإعلان، التصميم الداخلي والديكور).‏‏

تميّزت العقود الأخيرة من القرن العشرين بتنامي الدعم الرسمي للحياة التشكيلية بافتتاح صالات العرض وزيادة حجم اقتناء الأعمال الفنية لمصلحة متحف الفن الحديث، كما تم في المرحلة ذاتها دخول الجهات الخاصة على نحو واسع في هذا المجال لاسيما بافتتاح صالات العرض التي كان لها دور مؤثر في تنشيط الحياة التشكيلية وإحداث بينالي المحبة في اللاذقية (معرض يقام كل سنتين)، ومعرض الشباب في دمشق إلى جانب العديد من ملتقيات النحت .‏‏

إن أهم مايميّز الحياة التشكيلية السورية غناها بالاتجاهات والتجارب إذ إن الدولة لم تشجع اتجاهات دون سواها، لقد حافظ الفن التشكيلي السوري المعاصر على ماتميز به في تاريخه لجهة تبادل التأثير مع فنون العالم وأسهمت دراسة بعض السوريين للفن في بلدان العالم بنقل تأثيرات فنون تلك البلدان إلى التشكيل السوري المعاصر وزيادة غناه وتنوعه. إضافة إلى الرواد الذين درسوا في إيطاليا وفرنسا وفي مصر وكان من أوائل من قدم لوحة معاصرة منفذة بالمينا على النحاس (علي السرميني 1942) الذي درس في ألمانيا وظهرت تأثيرات الفن الأرميني في الأعمال المتكررة لـ (خليل عكاري1945) فيما بقيت آثار التعبيرية الألمانية حاضرة بقوة في أعمال جورج ماهر وكذلك تأثيرات الواقعية الروسية في أعمال ميلاد الشايب،وحيدر يازجي، وعلي خليل وأحمد ابراهيم . وامتد المشهد التشكيلي السوري إلى بعض البلدان العربية والأوروبية حيث يقيم ويعمل عدد من الفنانين التشيكليين السوريين المهمين أمثال:‏‏

منير سعراني(مصر) وطلال معلا (الإمارات العربية) ومصطفى يحيى (إيطاليا) وعمر حمدي (النمسا).‏‏

إن الحركة الفنية التشكيلية السورية هي حركة فنية معاصرة من أكثر المنتجات الثقافية تفاعلاً ونشاطاً وزخماً وجودياً.. وإن حركة المعارض الفنية الجماعية والفردية المليئة بالتجارب الفنية لها نفحة منفردة خاصة بالفنان.. وهذه الحركة تشهد تصاعداً ونشاطاً كمياً وعطاءً مستمراً متنوعاً ومختلف المحتوى والموضوع والأسلوب.. فظهر الفن متجاوزاً للنزعات المدرسية الأكاديمية أو جامعاً لعدة مدارس وتيارات فنية وتقنيات في ذات التجربة الفنية الواحدة ..وأحياناً نجد بالوقت ذاته تيارات وتجارب تقف راسخة منحازة للذات الفنية.‏‏

تم عمل هذا الموقع بواسطة